عندما بعث الله تعالى نبية الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بخاتمة رسالاته الاسلام لتكون نهاية حقيقية لعقود من تخبط البشرية بين خزعبلات العقائد الفاسده وتحريف الديانات السابقة وبين خرافات السحرة والكهان وطلاسم المنجمين لم يكن الهدف من هذه الرسالة ان تكون دينا ناسخا لما قبلها فقط او رسالة سماوية تحمل طقوسها قيما ومبادئ امتحانية جديدة كسابقاتها فيقع عليها ماوقع على ما سبقها من تحريف وتشويه ، بل انزلها تعالى على نبيه لتكون دستورا حياتيا ومنهاجا يقوم ما اعوج وانحرف في النفس البشرية طوال تلك العقود الماضية وتجديدا في حركتها وفكرها اتجاه تعاطيها الحياتي اليومي عبرسلسلة متماسكة من الاخلاقيات والسلوكيات المستندة بمتتاليات من القيم والمبادئ الانسانية الراقية التي حملها في تعاليمه ليجلو ما شاب النفس طوال تلك الفترة من اخطاء وادران وصولا الى الفضيلة الكاملة التي تتعامل مع الحياة بمثاليه عاليه ومن منطلق الحركة والفكرة المتجددة المجددة لحركة الحياة وتغييرها نحو الافضل كما رادها الله تعالى لخدمة مخلوقه الاسمى الانسان لا منطلق السكون المميت والثبات الرتيب على انماط واشكال معتادة واشياء مورورثه حد التقديس ، فجاء هذا الدين يحمل قوة وتحديا اخلاقيا لم تألفه البشرية من قبل تحديا يكمن في تعاليم وسلوكيات جديدة تختص بتهذيب دواخل النفس وخفاياها.. افكار جديدة ( كالنهي عن النميمة والحسد والبغضاء و الكراهية والبهتان والغلول وكيفية التعامل مع الحيوان والنبات بل وحتى الجماد ) انها افكار للتفاعل مع الحياة بحيوية وانطلاق ومسؤولية .. بخلاف العام من التعاليم والاخلاقيات التي جاءت بها الرسالات السابقة او ما دعت اليه بالطبع .
وكان التمهيد الالهي لهذا التحدي عبر اربعين عاما من الفعل الواقعي لتلك السلوكيات في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم قبل اقرارها في البعثة ، فلم تألف قريش او ايا من سكان الجزيرة او ما حولها سلوكا انسانيا بمثل ذلك الرقيوالسموالذي قابل وتعامل به النبي مع الجميع وبشهادة المحيطين فقد كان الصادق الامين العادل الكريم الحليم اضافة الى اخلاقيات اخرى كثيرة مما اهله ليكون مؤسسا لفعل حضاري متميز يتعامل مع الحياة وفق مبدأ الاحترام لا مبدا الافضلية .
وكان لابد من هذا الوقت الطويل من التمهيد عبر شخصية الرسول لاعداد الانفس التي اعتادت الخشونه والصلابه والقسوة في الفعل والجلافة والانحطاط والرعونه في الخلق لتقبل التغيير نحو الاحسن وصولا الى الافضل .
ومع البعثة يصبح الفعل اكثر وضوحا وجلاء وتتضح الصورة بأكتمال الفكرة في هذا الدين الجديد والى ما يدعو اليه من نبذ للجمود والبعد عن السكون وهجر القوالب التقليدية في التعاطي مع الحياة الى افكار جديدة تحمل فيما تحمل تعاليم وقيم ومبادئ تحرك دواخل النفس البشرية وتدفع بها الى مديات ارحب وفضائات اوسع في الفعل والحركة الدائمة حيث لا جمود او سكون يكتنفها وهي سلسلة من افكار دائمة التدفق والحيوية .
وهو ما انتقل بالضرورة الى كل من اعتنق الدين الجديد ودخل فيه فأصبح مخلوقا اخر متحرك بأتجاه الافكار نابذا الجمود في الاشياء او التعلق بكينوينة غير خالقه تعالى بعد ان تخلص من كل ادران حياته السابقة وكل علاقته بمحيطه البدوي المتخلف وادرانه .
فكان تحمل العذاب الشديد الى حد الموت وكان التحدي لاعراف وتراث القبيلة والعشيرة في العبودية والربا والظلم والتكبر ونبذ الفاحش من القول والفعل والاعتداء مقابل التمسك بهذه الفكرة الجديدة .
بهذه الروح انطلق الرسول باصحابه الذين امنوا بما جاء به عبر مواجهات القوالب القديمة والصور الثابتة التي دافع عنها كفار قريش حتى انتصر ودانت له الجزيرة .
ثم جائت المرحلة الثانية بعد وفاته صلى الله عليه وسلم حين قرر اصحابه ان يكملوا رسالة الله تعالى وتحملوا على عاتقهم التمسك بالفكرة الجديدة بل وان يزيدوا في حركتها وحيويتها وديمومتها دون كلل او ملل فنراهم ينفذون جيش اسامة الى الروم لمقارعة الدولة العظمى دون خوف او وجل ويصرون على مقارعة مانعي الزكاة لاستشعارهم انها حق امر به الله تعالى لفقراء المسلمين وليس لكونها مال الله وحقه فقط ولابد من ان يؤدى ولا محاباة او تردد ..
حركة دائمة وافكار تلد افكار لم يقفوا عند نص يحرم قتال المسلم او حديث ينهى عن رفع السلاح في وجه من آمن لينشغلوا في تفسير او شرح لهذا النص وذاك الحديث فتضيع الحقوق ويخسر الفقير حقه في ترهات لامعنى لها بل تحركوا بأتجاه روح الفكرة الاساسية للاسلام وهي عبادة الله تعالى عبر اداء الحقوق ورد المظالم وانهاء المعاناة فكان لابد مما لابد منه ما دامت الفكرة يتهددها الفناء والاضمحلال عبرجمع غبي اناني ظن ان موت النبي قد قضى على الفكرة الاساسية فكانت المواجهه
وتستمر حركة وافكار الاسلام الحقيقي للثلاثين عاما القادمة على نفس القدرة والعطاء تتدفق ، تغير الجميع نحو مجتمع تكاملي تفاضلي رائع يستشعر افراده اهميتهم جميعا ومشاركتهم جميعا ، فكانت الفتوحات وكان التوسع البناء المعمر لا الهدام المدمر ، كان الخير ينشر ظلاله ويطال من دخل الدين او من بقي على دينه السماوي السابق للاسلام .. لا محاباة او تمييز او تعسف او ظلم من اي نوع ومع ايا كان .
في السراء والضراء كان الرأس والجسد سواسية في الشعور لم يكن الخليفة منفصلا في هذا الدين عن باقي المسلمين بل بالعكس كان الخادم الاول لهم وكانو هم السادة الذين يسهر على راحتهم كان اول المتضررين واخر المنتفعين .
وحتى عندما تلبدت الغيوم واعترى الفكرة مسحة من الخطأ فكادت ان تحيد عن طريقها الالهي بفتنة مقتل ثالث الراشدين عاد بها المتحركون المتفاعلون مع الحياة الى جادتها الاولى الى ما كانت عليه ايام الرسول الى ايام نقائها وصفائها حتى اذا ما اتمت الثلاثون الاولى من عمرها تكالبنا عليها نحن البدو الرحل الاموات تكالب على الفكرة كل من كان لايؤمن بديمومتها وحركتها ، من يقدس بل يعبد الجمود والقولبه والثبات المتمثلة ببداوته واعرافها ويكره التغيير وبدئنا بأول خطوات تهديمها عبر كينونتها في المشاركة لنستبدله بنظام العشيرة الفاشل نظام الورائه البائد التافه حيث شيخ القبيلة وابنائه واتباعه ثم الرعاة الاوغاد فثلمنا بفعلنا الاثم هذا ثلمة عظيمه من اساسياتها فقد غمطنا حق جميع المسلمين في المشاركة في ادارة شؤونهم ، ورغم ان هذه الخطوة لم تشل حركة الفكرة الا انها اضعفتها وابطئت بها عن سرعتها المعهوده ثم رويدا رويدا عدنا نحن المتخلفين رعاة الماعز والابل الاجلاف ندس فيها من بدويتنا واعرافها الباليه وافكارها المهزوزة من ظلم وعبودية ولصوصية وبربرية وطائفية وشعوبية وهمجية واعتداء ووحشية وغباء حتى نجحنا في استبدالها نهائيا مع سقوط الخلافة العباسية فما عادت الفكرة تحمل بريقها الاول ما عاد الاسلام يحمل روحه التي بدأ بها بل اصبح شيئا اخر، قالبا غالبه من اعراف البدو وخزعبلاتهم وترهاتهم ووحشيتهم وانحطاطهم وشيئا من خرافات الاعاجم ، لم يعد الاسلام دينا بل اضحى عرفا وتقليدا .
ما دفع الناس وسط هذه البلبلة الى الدخول في التيه والجمود حين نفانا الاتراك واعادونا الى سيرتنا الاولى الى ما نتقن ، الى البداوة وحياة الرعي والتنقل وعدنا نعبد اصناما اخرى فاستبدلنا هبل بشيخ العشيرة ومناة بالجمل واللات بالخيمة وبئر الماء ومع نهاية عهد العثمانيين التقمتنا يد الغرب الاجنبي ليبدا معنا عهدا جديدا فقرر ان يصيغ مع بدايات القرن العشرين بنا دولة تخدم مصالحة فانتشلنا من خيمنا البالية ليجعلنا نسكن القصورالعاليه ومن مرافقة الجمال والماعزلمرافقة الجواري والقيان وابدلنا بعد الضيق وشظف العيش ببحبوحته الحياة ونعيمها والاستقرار .
وحين وجدنا نتقاتل على التوافه وعلى كل ما يلمع واننا انتهازيون وصوليون نفعيون ادرك اننا اغبى من ان نستحق ان يجمعنا بدوله واحدة فقرر ان يشتتنا في اكثر من كيان واقطعنا امصارا ولان الغباء صفة ملازمة لنا فلم يحتاج الى الكثير ليرانا نحكم بنظام البداوة وشيخ العشيرة فراح كل منا يحدد له قطعة ويجند رعاته الاغبياء لحمايته وحماية عبيده وحريمه وجواريه بل وان وصل الامرالى غزوجاره فسيفعل السنا البدو الجفاة الحفاة المتعودون على هذا الامر ؟
هكذا انشئت ما بات يعرف منذ عشرينيات القرن العشرين بالدول العربية واستمرت على نسق البدو واعرافهم دول كارتونية كاركترية تافهة لا انجاز ولاحضارة ولاتقدم ولا تطور ولا اي شيئ .. فقط الفشل في كل وجه وعلى كافة الصعد والمستويات .
وكان من الطبيعي بعد ما يربو على الثمانون عاما على نشئتها على هذا النحو الفاشل الساقط الا تكون الا صفرا والا يكون مواطنها الا صفرا في كل شيئ ، قالبا مصمتا لاشكل له ولا رائحة ولا حتى طعم او لون في اخلاقياته في سلوكياته في طريقة تفكيره في تدينه ومعاملته وتعاطيه مع الحياة ومكوناتها .
مواطنا انتهازيا ، طفيلي السلوك ، متخلف في عقيدته بائس الثقافة والاطلاع منغلق الفكرمتبع لا مبتدع ، مقلد لا مبدع فوضوي يعاني من عقدة النقص والفقر في كل مناحيه .
ونحن اذا نقر بهذه النتيجه للحكومات ومنهاجها الصفري لانبرئ من جهة اخرى انفسنا من كل ما نعيشه اليوم وما نحن عليه مما ذكرنا بل لانذهب بعيدا إن قلنا ان النسبة الاعظم مما عليه المواطن في تلك الكيانات من تخلف هو المسؤول عنه مباشرة فسلوكيات الانسان ومنهاجه الاخلاقي لايمكن ان يكون تبعا لبيئته فقط بل لتنشئته الحياتية الاسرية في المقام الاول .
واخيرا فالمعادلة الرياضية التي تؤكد ان الصفر لاينتج الاصفرا ، هي معادلة حقيقية وعادلة لوصف الحال في دول الكارتون تلك لذا لم يكن من المفاجئ او الصادم ان نرى كل هذا الفشل الذي يجتاح هذه الدول وشعوبها اليوم بعد ما يسمى الربيع العربي ..
الربيع الفاشل حيث التخبط والقتل اليومي العشوائي والمزيد من السقوط والانحطاط فيما يظن بعض المتفائلين ان الامر لايعدو كونه نتيجه طبيعية تعقب اية ثورة الا ان الحقيقة التي لايعيها هؤلاء ان لكل ثورة ارضية صلبة تنطلق منها منجز حقيقي تتحرك منه اوعلى الاقل دوله حقيقية وليست كارتونية تطير مع اقل هبة ريح وبالتأكيد هذا العالم العربي لايملك شيئا من هذا القبيل انه فقط خطأ ارتكبه الاجنبي في لحظة غفلة فولد ذاك الخطأ تلك الخيبة المساة كذبا دولا عربية .