ما هي الناصرية التي نتبناها جسرا للكرامة في حالة الوطن الراهنة؟
إنها ناصرية تؤسس على الإنجازات وترأب الصدوع التي نفذت منها الانكسارات، وناصرية تنفصل عن شخص رائدها الأول الذي تنسب إليه، فالمبدأ أكبر من الفرد حتى لو كان الفرد هو المؤسس والملهم، والناصرية في جوهرها منظومة مباديء تنطلق من التركيبة الجغرافية والسكانية والتاريخية لمصر وما تفرضه تلك التركيبة من توجهات وسياسات، وهي السياسات التي علا نجم الدول في تاريخ مصر طالما انتهجتها، وهبط نجمها كلما بعدت عنها، تركيبة فهمها جمال عبد الناصر - لكنه لم يخلقها قطعا لأنها سابقة عليه - وأسس عليها السياسات العريضة التي تتكون منها الناصرية، وهي برأينا:
- استقلال الإرادة الوطنية المصرية، والتي تحافظ على كيان الأمة المصرية التي تنصهر فيها تعددية الأجناس والأعراق والأديان والمذاهب والبيئات، فمصر ليست عرقا واحدا نقيا بتقاليده وعاداته، ولا هي دين واحد بخصاله وقيمه، ولا بيئة واحدة رعوية أو زراعية أو ساحلية، بل هي هذا كله مجتمعا، ولذلك فغياب المشروعات القومية المؤسسة على إرادة وطنية مستقلة يفتت مصر ويحول طبيعتها الفسيفسائية لما يشبه الزجاج المكسور.
- الاقتصاد الاشتراكي الذي يحترم كل من الملكية الخاصة والمصلحة العامة ويسعى لتحقيق التوازن البناء بينهما، فحق الملكية حق إنساني أصيل، على ألا تكون تلك الملكية مؤسسة على اغتصاب أو انتهاك لملكية الغير أو الملكية العامة، أو على الفساد الذي يمكن الفرد من نصيب أكبر من الدخل القومي أو عائد التنمية، وفي ذات الوقت، فمراعاة المصلحة العامة، وحق الحياة الكريمة للمواطن كأحد الحقوق الأصيلة المرتبطة بالمواطنة، هما صمام الأمان لصيانة الملكية الخاصة على الأمد الطويل. كما أن انحياز الدولة لمحدودي الدخل والطبقات الكادحة هو شرط شرعيتها الدائم، فقد أفرزت المجتمعات البشرية الحكومات لحماية الأضعف من طغيان الأقوى والأقل موارد من استغلال الأكثر موارد، وأي حكومة تعكس انحيازها فتتحالف مع رأس المال ضد المصلحة العامة ومصالح الكادحين تفقد شرعيتها فورا.
- تنمية الدور الإقليمي والقاري والعالمي البارز لمصر بما يناسب ثقلها الجغرافي والسكاني والتاريخي والثقافي، والقومية العربية أحد أهم الركائز في هذا الدور، لأنها جسر ثقافي يربط مصر بمحيطها الإقليمي، وليست في ذات الوقت نعرة عرقية تؤثر على علاقة مصر بمختلف الأعراق في المنطقة من كردية لفارسية لتركية لأمازيجية، والعقيدتان الإسلامية والمسيحية الأرثوذكسية جسران يربطان مصر بمحيطها العالمي، وكذلك الحال مع الهوية القارية الأفريقية، ومع الهوية الاشتراكية التي تربط مصر بالدول الرافضة للاستغلال من أمريكا اللاتينية غربا للصين شرقا.
- الموقف الرافض للتطرف اليميني بكافة تياراته العالمية ومظاهره المختلفة، بما في ذلك الصهيونية، واليمين المتطرف الآنجلو-أمريكي والفرانكو-لاتيني، والأصولية الإسلامية الوهابية والسلفية، والأصولية المسيحية الكاثوليكية، وأوضح مظاهر هذا الموقف الثابت تتمثل في ريادة مصر لمعسكر الصمود العربي ضد الكيان الصهيوني، وريادة التقدمية العربية في صمودها الحضاري والثقافي ضد الأنظمة التقليدية الموالية للوبي الآنجلو-أمريكي في منطقة الخليج.
والعبقري الراحل الدكتور جمال حمدان هو برأيي النموذج الكامل للمفكر الناصري، فتمسكه بالثوابت الناصرية لا يعتريه ضعف، ومع ذلك فنفاذ بصره لعيوب التجربة الناصرية الأولى لا ينتابه قصور، فهو لذلك في فكره السياسي والاجتماعي والاستراتيجي يعد المثل الأعلى للناصرية الجديدة التي ننشدها، ولهذا نرى أن قراءة لأوراقه الخاصة التي نشرت مؤخرا من دار عالم الكتب للنشر تفيدنا في هذا الموضع وتغني في تركيز لغتها التلغرافية عن كثير من الإطناب والإسهاب. يقول عبقري الجغرافيا السياسية والاجتماعية الناصري الراحل:
"مصر بيئة جغرافية مرهفة وهشة لا تحتمل العبث، ولا تصلح بطبيعتها للرأسمالية المسعورة الجامحة الجانحة". لقد فهم الراحل الكبير أن تركيبة مصر السكانية وعلاقتها بالجغرافيا والموارد الطبيغية، وهذا التمدد البطيء للكتل السكانية حول الوادي والدلتا لا يجعل من مصر أرضا للفرص البكر كالولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين، ولا كالجزيرة البريطانية في القرن الثامن عشر مثلا، ولهذا، فوجود ضوابط ناظمة للاقتصاد جوهري حتى تتعايش هذه الكتل السكانية المكدسة في سلام اجتماعي. وقل مثل هذا في علاقة المدن بالقرية والنزوح المنتظم إلى المدينة كلما زاد النشاط الرأسمالي، والذي يهدد بتجويع المدينة بسبب قفر القرية. وغير هذا كثير تقوله الجغرافيا السكانية لمصر لمن يستنطقها.
" بقيام إسرائيل عام 1948 فقدت مصر ربع وزنها التاريخي، ثم فقدت نصف وزنها بهزيمة 1967، ثم فقدت بقية وزنها جميعا في كامب ديفيد. مصر الآن خشبة محنطة، مومياء سياسية كمومياواتها الفرعونية القديمة، ولا عزاء للخونة". فبقيام الكيان الصهيوني عام 1942م وفشل مصر والدول العربية في مواجهته عام 1948م انتهى دور مصر كنقطة اتصال بين شرق العالم العربي وغربه، وانتهت الحدود الآمنة لمصر لأجل غير مسمى، وفي هزيمة 1967م فقدت مصر نصف زونها السياسي والتاريخي كرائدة للأمة العربية بعد أن عجزت عن ردع إسرائيل وعجزت عن حماية ترابها الوطني فضلا عن دعم الأردن وسوريا في مواجهة العدوان، ثم استعادت مصر بعض ما فقدت تدريجيا خلال حرب الاستنزاف المجيدة، واستعادت نصيبا وافرا منه بالعبور العظيم في 1973م، لكن التورط التدريجي في صلح منفرد وغير عادل مع الصهيونية أخرج مصر من معادلة الشرق الأوسط وأفقدها بقية ما لها من وزن فيه.
"جمال عبد الناصر أول - وللأسف آخر - حاكم يعرف جغرافيا مصر السياسية". فكل السياسات الناصرية كانت مؤسسة على الجغرافيا السياسية المصرية، فالسيادة والمشروع الوطني هما آلية توحيد المزيج السكاني الغير متجانس، والاشتراكية هي آلية عدالة التوزيع في ظل موارد زراعية محدودة وخطط صناعية نامية، والقومية هي الحضور الفاعل لمصر في محيطها التاريخي.
"الناصرية هي المصرية كما ينبغي أن تكون، أنت مصري إذن أنت ناصري، حتى لو انفصلنا عن عبد الناصر أو رفضناه كشخص أو كإنجاز. وكل حاكم بعد عبد الناصر لا يملك أن يخرج على الناصرية إلا وخرج عن المصرية، أي كان خائنا. فالناصرية بوصلة مصر الطبيعية، مع الحق المطلق لكل مصري في قبول أو رفض عبد الناصر، لأن المصري ناصري قبل الناصرية وبعدها وبدونها"، وهو هنا يعني تماما ما فصلناه من انفصال الشخص عن المبدأ، ومن كون الناصرية منظومة سياسات نابعة من مصر ومقدرات مصر حتى تكاد هويتها تتطابق مع الهوية المصرية.
"كل عربي أو مسلم يقبل بإسرائيل فهو خائن قوميا وكافر دينيا". فإسرائيل ليست احتلالا بغيضا وحسب، ولكنها رأس حربة اليمين المتطرف العالمي في المنطقة، وهو اللوبي العالمي الذي يستهدف العالم العربي كمصدر للطاقة وسوق استهلاكية ضخمة، من هنا كان القبول بها خيانة قومية، كما أن وجودها يستهدف طمس مضمون الدينين الإسلامي والمسيحي في العالم العربي، فالقبول بالصهيونية يعني القبول بتوحش اقتصاد السوق ويعني القبول بالتطهير العرقي والقبول بالجرائم ضد الإنسانية مقابل الطموح الاستهلاكي الرخيص، وهو ما يحدث الآن، وما يمثل منظومة قيم منحطة يستحيل أن تبقى مجاورة لأديان السماء طويلا، إلا لو أفرغت تلك الأديان من مضمونها السامي وأصبحت تدينا بديلا على حد تعبير أستاذنا الدكتور علاء الأسواني.
"هدف الإسلاميين الإرهابيين هو حكم الجهل للعلم". كلمة عبقرية في تركيزها، فالتطرف الديني عبارة عن هروب المتطرف من عالم لا يفهمه ولا يهضم علومه ولا يستسيغ منطقه لقصور عقلي بحت، ومن ثم، يكون الطريق الأسهل هو وصف العلم والتطور بالجاهلية ومحاولة السيطرة عليه بسطوة الكهنوت، وهو ما يحدث اليوم كذلك في بعض أقطار العالم العربي.
"الفتنة الطائفية والتطرف الإسلامي في مصر كلاهما نتيجة مباشرة للاعتراف بإسرائيل ثم نتيجة غير مباشرة لكل تداعيات هذا الاعتراف. هذا الاعتراف هو نوع مستتر من الانتحار الوطني". في تلك العبارة يربط جمال حمدان –وهو على حق- بين صلح المغبون مع الصهاينة وبين ظهور الفتنة الطائفية المتزامن معه تماما، ذلك أن انهيار الحلم الوطني والقومي والردة الحضارية في السبعينات أصابت الانتماء الوطني بالوهن، وبالتالي حل محله الانتماء ليس للدين ولكن للمؤسسة الدينية المكونة بشكل رسمي في حالة الديانة المسيحية من الكنيسة بهيكلها المعروف، وبشكل غير رسمي في حالة الديانة الإسلامية من منظومة دعاة ورجال دين من نوعية "عبد الحميد كشك" ومن ينتهج نهجه، وهي نوعية تختلف تماما عن علماء الدين العظام أمثال الشيخ محمد الغزالي والشيخ عبد الحليم محمود والشيخ شلتوت رحمة الله عليهم جميعا، سواء في محتوى الخطاب الديني الذي صار هشا في حالة الدعاة الجدد، أو في لغته التي تدنت لتسيطر عليها نبرة السخرية والسباب
بقــلم د\ اياد حرفوش