عار الصحافة الأمريكية
محمد قبرطاي:
أسمى شيء في الحياة هو أن يصون المرء شرفه وشرف قومه وشرف مهنته. صون الشرف مطلوب من كل إنسان عاقل راشد؛ والمسؤولية مضاعفة إذا كان المرء يعمل في خدمة المجتمع كموظف حكومي أو نائب برلماني أو كاتب أو ناشر صحفي.
مسؤولية الصحفي لا تقل عن مسؤولية أي خادم آخر من خدم الشعب٬ وهي تتطلب من الصحفي أن يكون عفيفا نظيف الذمة.
في مدارس الصحافة الراقية في أوروبا وأمريكا يحذر الأساتذة تلاميذهم من الإغراءات المادية التي يستهدف مقدموها إفساد ضمير الصحفي. وهم ينصحون بألا يقبل الصحفي أي منة من أي مصدر بما عدا استقاء المعلومات والأخبار الصحيحة الخالية من أي تلفيق أو تزوير، والتي من حقه أن يحصل عليها كأحد ممثلي الرأي العام.
المسؤولية مضاعفة علی الصحفي الذي يمارس مهنته في بلد ديمقراطي تتوفر فيه حرية النشر والتعبير عن الرأي.. ومن المفروض أنها تتوفر في الولايات المتحدة بموجب أحكام الدستور الذي وضعه زعماء ومفكرو الدفعات الأولی من المهاجرين.
لكن الصحفيين والإعلاميين الأمريكيين يشْكُون مُرّ الشكوی من اضطهادهم وتعرضهم للقمع والإرهاب الذي تفرضه عليهم السلطات الحكومية مباشرة أو بشكل غير مباشر عن طريق الضغط علی رؤسائهم في المؤسسات التي يعملون لديها. فأصبح البعض منهم مضطرين لفرض الرقابة الذاتية علی أنفسهم مخالفين بذلك واجبهم وضمائرهم.
وقد اشتد القمع منذ الحرب التي شنها جورج بوش وزبانيته علی أفغانستان والعراق. فقد صنفت السلطات الأمريكية الإعلاميين إلی صنفين: صنف يسير في ركابهم٬ وصنف يحرض علی استقلاله وصدق أخباره ومعلوماته ونزاهة آرائه٬ فيتعرض للمضايقات من جراء ذلك.
خلال حرب العراق فتح وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رمسفيلد المجال لاصطحاب الصحفيين والإذاعيين مع القوات المحاربة في الميدان فظل هؤلاء المرافقون ينقلون إلی جماهيرهم المعلومات التي يزودهم بها ضباط الإعلام العسكري أو ما يرونه من علی متن الدبابات المهاجمة فيصفقون ويطبلون كلما تم تدمير قوات عراقية أو منشآت عسكرية أو مدنية٬ وإذا تعرضت السرية التي يرافقونها لخطر لا يتورعون عن الاشتراك في المعركة بإطلاق الرصاص أو قذف القنابل اليدوية، مخالفين بذلك أول شرط من شروط العمل الصحفي٬ وهو التزام الحياد وعدم الانحياز إلی أي جانب بشكل يؤثر علی نزاهة القلم أو المذياع.
خلال معركة بغداد حرص بعض الصحفيين والمذيعين المستقلين علی تزويد القيادة الأمريكية بعناوين مكاتبهم كي تتجنب الطائرات والدبابات قصفها وتدميرها. ولكن هذه المكاتب أصبحت هدفا محدداً للقصف بشكل مركز يدعو إلی الاعتقاد بأن القيادة قد غدرت بالمذيعين والصحفيين.
وكانت مكاتب تلفزيون "الجزيرة" التابعة لقطر مقر القيادة العسكرية العليا الأمريكية خلال حرب العراق٬ وقناة "العربية" في مقدمة الأهداف التي تعرضت للقصف في كل من البصرة وبغداد. إلا أن الاعتداءات لم تقتصر علی الصحفيين والمذيعين العرب بل شملت وكالات أنباء أجنبية مستقلة منها وكالة رويترز البريطانية.
في داخل أمريكا نفسها انقسم معلقو الصحف والإذاعات إلی فريقين٬ أولهما يدعو إلی إبادة الشعب العراقي، ويدعو الثاني إلی عدم الاعتداء عليه بدون مبرر.
فبينما طلب جورج بوش من صدام حسين أن يغادر بلاده إلی غير رجعة اقترح الصحفي بيل أورايلي "الذي يعمل مع شركة فوكس نيوز" علی بوش أن يعطي إنذارا لسكان مدينة بغداد، البالغ عددهم 4.5 مليون نسمة، أن يغادروا العاصمة خلال 48 ساعة، وطلب من بوش أن يدمر بغداد بمن بقي فيها من السكان بعد انقضاء المهلة ويمحوها من الوجود.
هذا الصحفي غير النبيل الذي قدم بحماس هذا الاقتراح الوبيل جری ترفيعه ومنحه إكرامية. أما المذيع التلفزيوني فيل دوناهيو فقد استغنت محطة ان بي سي NBC التلفزيونية عن خدماته لأنه أجری لقاءات مع شخصيات أمريكية ممن عارضوا الهجوم علی العراق.
وقد أبلغ رئيس تحرير صحيفة لويزفيل ليدر "التي تصدر في تكساس" كاتب العمود اليومي برينت فلين بأن الصحيفة قد استغنت عن خدماته لأنه اشترك في مظاهرة ضد الحرب وعبَّر عن معارضته لها في مقالاته. وصدر أمر بمنع الصحفي راسيل مخيبر من حضور المؤتمرات الصحفية التي تعقد باستمرار في البيت الأبيض؛ ولكن رفع عنه الحظر بعد أن هدد برفع دعوی في المحاكم.
وفي ولاية ميشيغان اضطر كورت هارلي كاتب العمود بصحيفة "هورون ديلي تربيون" إلی الاستقالة بسبب التوقف عن نشر مقالاته المعادية للحرب٬ وكانت الحجة أن "مقالاته تؤذي مشاعر الناس".
وقد أعرب إد غيرنون المخرج التلفزيوني الذي أخرج فيلما عن حياة هتلر عن اعتقاده بأن أوضاع أمريكا المعاصرة لا تختلف عما كانت عليه الأوضاع في ألمانيا خلال العهد النازي. وطبعا فقد هذا المخرج التلفزيوني المخضرم وظيفته فورا.
في يوليو 2003 قال الصهيوني بول وولفوفيتز نائب وزير الحربية الأمريكية إن "قناة الجزيرة وقناة العربية من ألد أعدائنا". بعد هذا التصريح شعر حافظ مرزا مدير مكتب الجزيرة في واشنطن بالخطر٬ فأخذ يدافع عن نفسه وعن قناة الجزيرة فقال "كان الناس يتخيلون سابقا أننا نعمل علی الإيقاع بين الدول العربية٬ أما الآن فإن الأمريكيين يعادوننا لأننا نقدم وجهات نظر الجانبين "العراقي والأمريكي". فتعاملنا أمريكا "الديمقراطية" كما كانت تعاملنا بعض الدول العربية".
وقد حصل ذات مرة أن أحد موظفي قناة الجزيرة أبرز بطاقته الصحفية لجندي أمريكي عند إحدی نقاط احتجاز السيارات فأشار عليه الجندي بالذهاب، وعندما تحركت سيارته رشها الجندي بالرصاص ولكن الصحفي لم يصب لحسن الحظ وإن تدمرت السيارة.
وبعد احتلال بغداد أصدرت السلطة المحتلة أمراً إلی الحكومة العميلة العراقية بتعطيل إذاعات قناتي الجزيرة والعربية، فعلق روبرت مينارد الأمين العام لمنظمة "مراسلين صحفيين بلا حدود" علی هذا التعطيل قائلا إنه لا يبشر بأن أمريكا جلبت الديمقراطية إلی العراق!
وقد زعمت السلطات الأمريكية نفسها بعد مقتل طارق أيوب مراسل الجزيرة في بغداد أنها اضطرت لقتله في إطار مكافحتها للإرهاب. فمن هو الإرهابي يا تری؟ الجواب يأتي من كثرة عدد الصحفيين الذين قتلوا خلال السنة الأولی من الاحتلال الأمريكي للعراق، فقد بلغ عددهم 17 صحفيا، ولم يأمر دونالد رمسفيلد "الذي قال عندما أبلغ بأن الصحف تنتقده بأنه لا يقرأ الصحف" بإجراء تحقيق حول مقتل هؤلاء الصحفيين.
وبالرغم من حرب فيتنام لم تكن أقل شراسة حرب العراق٬ فقد كان بوسع صحفيين مستقلين أن يقوموا بتغطية حرب فيتنام بدون أن يعاديهم الأمريكيون بل رحبوا بهم مثلما رحبوا بموشي دايان الذي زارها كمراقب.
أما في العراق فقد أعلنوا العداء علی كل صحفي ومذيع مستقل باسم الديمقراطية طبعا. وقد وصف دمج الصحفيين في ركب الجيش الأمريكي الغازي بأنه أذكی حيلة ابتدعت للسيطرة عليهم منذ أيام جوزيف غوبلز وزير الدعاية النازي.
فالصحفي الذي يشارك الجنود في طعامهم وينام معهم في مخيماتهم ثم يرافقهم علی دباباتهم يتشرب عقلية هؤلاء الجنود وضباطهم ويسب ويشتم العراقيين ويتمنی لهم ما يتمناه الجنود الأمريكيون، وهو قتلهم أو إيداعهم في معتقلات كسجن أبو غريب أو سجن غوانتانامو في القطاع المحتل من كوبا، لا بل تخلی بعض الصحفيين الأمريكيين عن أصالة مهنتهم فأصبحوا يقاتلون العراقيين بالحديد والنار أسوةً بالجنود؛ وصاروا يدبجون الصفحات وشاشات التليفزيون بأخبار بطولات الجيش المزعومة ويكتمون المآسي التي يتعرض لها العراقيون جندا ومدنيين.
وقد أغمض الصحفيون المرافقون للجنود أعينهم عن الاعتداءات علی الصحفيين المستقلين ودافعوا عن مزاعم القيادة الأمريكية بأن هؤلاء الصحفيين "المستقلين" كانوا يطلقون النيران علی الجنود.
لكن المراسل الصحفي البريطاني روبرت فيسك أكد أن العكس هو الصحيح، فالصحفيون لم يطلقوا النار علی الجنود٬ بل أطلق الجنود قذائف مدافع دباباتهم عمدا علی الصحفيين.
وقد استضافت الإذاعات الأمريكية ضباطا متقاعدين أمريكيين فدافعوا عن الباطل وزوروا "الحق"؛ فالجنرال وزلي كلارك قائد حملة "الناتو" ضد الصرب المعتدين علی مسلمي البوسنة وكوسوفو وألبانيا قال إن مقتل الصحفيين في العراق لم يكن متعمدا بل جاء ضمن طوارئ الحرب التي لا يمكن السيطرة عليها. ولكن الوقائع أثبتت أن وزلي كلارك لم يكن صادقا في كلامه. فليس من المعقول أن يكون إطلاق المدافع علی الطابق الخامس عشر من فندق فلسطين "الذي تجمع فيه المراسلون الصحفيون" مجرد صدفة، بل كان عملا مقصودا استهدف الاعتداء علی موظفي الجزيرة وزملائهم من الصحفيين الأجانب والعرب.
في كل من أمريكا وبريطانيا قوانين تضمن حرية النشر والتعبير عن الرأي، ولكن يبدو أن هذه القوانين ليست سارية المفعول دائما في ميادين الحروب.